ينظّم مخبر البحث: تجديد مناهج البحث والبيداغوجيا في الإنسانيات ندوة علميّة دوليّة حول موضوع الدّولة والدّين أيّام 19-21 أبريل 2018 بكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة/القيروان.
الإشكالية، الأهداف، المحاور والضوابط:
إنّ المتأمّل في تاريخ الدول القديمة والحديثة يمكن أن تلفت انتباهه العلاقة القائمة بين الدّين والدّولة، فالدّين في تلك الدّول يمكن أن يمثّل حضورا لافتا مثلما يمكن أن يمثّل غيابًا لافتا، وفي كلتا الحالتين يكون النّظام الذي يُسيّر شؤون الدّولة دالاّ على رؤية مخصوصة تتعلّق بتصوّر مخصوص لنظام الحكم. وهذا الأمر يمكن أن يلاحظ في تاريخ الدّول القديمة مثلما يمكن أن يلاحظ في دساتير الدّول الحديثة والمعاصرة.
والمتتبّع للشّأن السياسي ولتاريخ الدّول في العالم بالإمكان أن يلاحظ أنّه بقدر ما يغوص الدّارس في معالجة علاقة الدّولة بالدّين بالرّجوع إلى الأزمنة الغابرة يتبيّن الحضور المكثّف للدّين في تسيير شؤون الدّولة. وفي المقابل يلاحظ الدّارس أنّ هذا الحضور لعنصر الدّين آخذ في الانحسار والتّقلّص وأحيانا في الانتفاء في دساتير الكثير من البلدان اللائكيّة منذ عصر الحداثة وخاصّة بعد الحرب العالميّة الثّانية التي تمّ الإعلان بعد انتهائها عن حقوق الإنسان، ومنها حرّية المعتقد وحرّية الضمير وحرية التعبير.
لقد هيمن المقدّس– والدّين مظهر من مظاهره-على حياة الإنسان منذ بداية تاريخ البشريّة، فاكتسى النّظام السياسي طابعا قدسيّا يشرّعه لدى الطبقات الحاكمة، ويسوّغ قبوله لديها، فتكون مُطيعة للأوامر والمراسيم الصادرة عن الملك أو الإمبراطور أو الخليفة الذي صار يُنظر إليه على أنّه “ظلّ الله في الأرض” أو هو “خليفة الله في الأرض” بما أنّه مُسِحَ وبُورك من السلطة الدّينيّة ليكون ملكا كما هو الشأن في الدّولة الدّينية قديما ، أو كما هو الشّأن لدى الملوك والخلفاء (في الدّول الإسلامية) الذين تتمّ مبايعتهم حسب التقليد الإسلامي ليديروا شؤون المسلمين.
لقد كانت سلطتا الدّين والدّولة في أيادي الملوك و الخلفاء، فكانوا بذلك يتمتّعون بجميع أنواع النفوذ السياسيّة والدّينيّة. إنّ هذا النّوع من الدّول يُنعت بالتّيوقراطيّة (théocratie). غير أنّ هذا النّوع من الأنظمة السياسيّة والدّينية قد انتهى العمل به في دولة إسرائيل بما أنّ الكتاب المقدّس لم يعد ذا قيمة في قانون الدّولة وإن ظلّت سلطتُه أخلاقيّة وثقافيّة، وليست بالضّرورة دينيّة. أمّا في الدول العربيّة المعاصرة فمازلنا نرى حضور بعض العناصر ذات الطّابع التّيوقراطي في سياستها.
إنّ الدّولة إذا كانت تيوقراطية فإنّها تُمسك بعصوين قويّتين: عصا السياسة وعصا الدّين، وهي تستعمل كلّ واحدة منهما في الظّرف المناسب، فالملك أو الإمبراطور أو الخليفة يمكنه أن يوظّف الدّين لتحقيق أغراضه السياسيّة حتّى إن كان غير متديّن، مثلما يمكن أن يفرض دينه على رعيته: “إنّ كلّ انشقاق سياسي يُعاقب باسم الدّين، وكلّ تعدّد دينيّ يُعتبر تمرّدا ضدّ السلطة السياسية. لقد حُوكم الشهداء المسيحيون في القرون الأولى رسميّا بسبب رفضهم معبود الإمبراطور الروماني لأنّ رفضهم يضع وحدة الإمبراطورية موضع استفهام. وكذا كان شأن المسلمين الأوائل الذين اضْطُهِدوا رسميّا لأنّ إيمانهم التوحيدي وضع التعدّد الدّيني الوثني الممارس في مكّة موضع استفهام، ولأنّ توحيدهم خاصة عرّض التّجارة المكّية المرتبطة بالوثنيّة في الكعبة للخطر” .
وقد كشف التاريخ عن أنّ الدّيانتين المسيحيّة والإسلاميّة، لمّا صارتا مهيمنتين ورسميّتين صارت السّلطة الزمنية (سلطة الدّولة) تُدين باسم الدّين الانشقاقات التي كانت تمثّل خطرا على وحدة الدّولة ووحدة الإيمان، ومن أبرز الأمثلة محاكم التفتيش في البلدان المسيحية ومحنة القول بخلق القرآن أو بقدمه في القرن الثالث الهجري بالنسبة إلى البلدان العربية الإسلامية في عهد الدّولة العبّاسية ، وكذلك كان إصدار التّهم بالهرطقة والزندقة. أمّا السّلطة الدّينيّة فيمكن –من جهتها-أن تفرض على المجتمع معاييرها الأخلاقية في ظلّ الدّولة التيوقراطيّة .
غير أنّ هذه الأنظمة التيوقراطية أخذت تفقد موقعها في المجتمعات الحديثة في الغرب شيئا فشيئا منذ ظهور العلمانيّة باعتبارها “سيرورة يخرج عن طريقها قطاعات اجتماعيّة وثقافيّة عن سلطة المؤسّسة الدّينية ورموزها” . وقد أدّت العلمانية إلى الفصل بين الدّين والدّولة، بل ذهبت أبعد مدى في الفصل بين الدّين والثّقافة في مظاهرها المتنوّعة. وبذلك أُبعد الدّين إلى المجال الخاصّ أو الشّخصي إن لم يُقْصَ تماما، فنشأت الدّولة اللاّئكيّة.
لقد نشأت سيرورة العلمانيّة هذه وتطوّرت في الغرب لتقف ضدّ سيطرة الكنيسة على الدّولة. وقد دعمت الثورة الفرنسية (1789) هذا التّوجّه العلماني من أجل جعل نهاية لامتيازات الكنيسة الكاتوليكية وضمان التّعدّدية الدّينية وذلك بالمساواة بين جميع التعبيرات الدّينية البروتستنتينية واليهودية… أو حتّى الملحدة باسم حقوق الإنسان وبالخصوص حقّ حريّة الضّمير.
لكنّ هذا التوجّه العلماني رفضته الكنيسة الكاتوليكية منذ ظهوره في عهد بابوية بيوس السادس سنة 1791 (1791Pie VI, ) ولم تعترف الكنيسة به بكلّ وضوح إلاّ بعد انتهاء اجتماعات المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1865) باعتباره “استقلالية الزمني”، وهي استقلالية تجد مرجعيتها في نصوص “العهد الجديد” “أَعْطِ لقيصر ما لقيصر ولله ما لله” حسب عبارة الإنجيلي متّى (22: 21).
لقد تغيّرت هذه النّظرة الكنسية إزاء العلمنة منذ الحرب العالمية الثانية، ونشأ في الغرب المسيحي علم لاهوت العلمنة (théologie de la sécularisation) الذي احتفى بها باعتبارها فرصة بالنسبة إلى الإيمان وإلى المسيحية التي هي في حدّ ذاتها يجب أن “تُعَلْمَنَ”. أمّا في العالم العربي والإسلامي فإنّ الكثير من الدّول مازالت أنظمتها تقرن الدّيني بالسياسي، بل إنّ جميع الحركات الإسلاميّة الأصوليّة وبعض الدّول تعتبر العلمانيّة كفرا، وتنظر إلى المجتمعات على أنّها “مجتمعات جاهليّة” كافرة يجب الجهاد ضدّها من أجل إدخالها في الإسلام.
تنصّ أغلب الدّول في العالم الإسلامي في مفتتح دساتيرها منذ النّصف الثّاني من القرن العشرين على أنّ الإسلام هو دين الدّولة، وتُضيف بعض الدّساتير أنّ الدّولة هي حاميته أو راعيته، نقرأ في دستور البلاد التّونسيّة لسنة 2014 ما يلي:
” الفصل الأوّل: تونس دولة حرّة، مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها” .
ونجد في بعض الفصول الأخرى من الدّستور نفسه ما يدعم هذا التوجّه الدّيني في علاقته بالنّظام السياسي، فنحن نقرأ في الفصل السّادس: “الدّولة راعية للدّين، كافلة لحرّية المعتقد والضّمير وممارسة الشعائر الدّينيّة، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي. تلتزم الدّولة بنشر قيم الاعتدال والتسامح وبحماية المقدّسات ومنع النيل منها، كما تلتزم بمنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف وبالتّصدّي لها”.
ولا تشذ دساتير البلدان العربية والإسلامية عن هذا التوجّه في رسم العلاقة التي يجب أن تقوم بين المؤسسة الدّينية من جهة ومؤسسة الدّولة من ناحية ثانية، فقد ورد في دستور المغرب “المملكة المغربية دولة مسلمة ذات سيادة. الإسلام دين الدّولة، وهي تضمن الممارسة الحرّة للطّقوس” . وينصّ دستور الجزائر على أنّ الإسلام هو دين الدّولة. أمّا المملكة العربيّة السعودية فإنّها تتّخذ القرآن والسنّة النّبوية مصدرا رئيسا في التّشريع. وهي تفعّل في مجابهة المشاكل الاجتماعيّة المؤسسات الدّينية القديمة مثل الحسبة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) والإفتاء والقضاء والأوقاف…
وقد كثر الكلام واللغو في أيام ما يُسمّى بـ “الثورات العربية” وبعدها في بعض البلدان وخاصّة في تونس ومصر، على “الشريعة” و القرآن، وتعدّدت الدّعوات إلى أن تكون “الشريعة” مصدر التشريع في سياسة الدّولة وإدارة شؤون المجتمع، وأن يكون منصوصا على ذلك في دستور البلاد. وتعطّلت بعض جلسات “المجلس التأسيسي” في تونس بسبب اختلاف الأطراف المتحاورة في المسألة بين مؤيّد و معارض. ونادى الكثير من حزب النهضة في الشوارع وفي ساحة اعتصام الرحيل (أوت 2013) بضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية باعتبارها حلاّ ناجعا يترقّى بالمجتمع في جميع المجالات .
وأُرِيقت دماء كثيرة في بلدان عربية إسلامية باسم الشريعة والدّين أو “قانون السماء”، وظهرت في الساحة العربية والإسلامية أحزاب ونشأت حركات ذات مرجعية أصولية يقول أنصارها إنّهم يعتمدون الشريعة الإسلامية في تنظيم شؤون الدنيا والآخرة مثل “أنصار الشريعة” و”حركة النهضة” و “حزب التحرير والعدالة” و “حزب النور” و”فجر ليبيا” و”بوكوحرام” و”تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام”… وذكرت بعض الأحزاب في تونس أنّ برنامجها الانتخابي للرئاسة (2014) مركّز على اعتماد الإسلام مصدرا للتشريع .
ولا يكاد يخلو مجتمع في العالم العربي والإسلامي من حزب أو حركة أو جمعية ذات مشروع دينيّ يدعو أصحابه إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في تسيير شؤون “الأمّة”. ويعتقد أصحاب هذه الأحزاب والحركات والجمعيات أنّهم على حقّ وأنّ غيرهم في ضلال مبين. وبلغ بهم الأمر إلى حدّ تكفير الآخر ومحاربة الدولة المدنية وقيم الحداثة وإلى الدعوة إلى إقامة الإمارة والخلافة مكان الدولة الحديثة ؛ ونعتوا المجتمعات الحديثة بالجاهلية وبالكفر، وقتّلوا وذبّحوا وسبوا ويتّموا… وعلّلوا ذلك بابتعاد الناس عن الشريعة والدّين. لذلك طالبوا بالجهاد المسلّح من أجل إقامة إمارة أو خلافة يكون الإسلام مصدرها في التشريع.
إنّ هذه النّدوة العلميّة الدوليّة تسعى إلى إثارة جملة من الإشكالات التي كثر الكلام فيها على نوعية المجتمع الذي يُراد ميلاده وعلى علاقة الدّين بالدّولة التي يجب أن تنشأ وعلى الأنظمة التي تُصاغ لتسيير شؤون البلاد في العالم العربي وعلى مستقبل الدّولة الدّينية والدّولة المدنيّة في هذا العالم.
وستدور هذه النّدوة العلميّة الدّوليّة على المحاور الرئيسة التالية:
1-في المفاهيم: الدّين، الدّولة، التيوقراطيّة، اللاّئكيّة، العلمانيّة، الحداثة…
2-الدّولة الدّينية: خصائصها، حضورها في التاريخ وفي العالم المغاصر.
3-الدولة المدنية /العلمانية/اللائكية: خصائصها، حضورها في التاريخ وفي العالم المعاصر.
4-الدولة الدّينية: أيّ مستقبل لها؟
5- الدولة المدنيّة/العلمانيّة/اللاّئكيّة: أيّ مستقبل لها؟
6-إشكاليّة الدّيني/السياسي في الأنظمة العربيّة والإسلاميّة.
مواعيد مهمة:
على الرّاغبين في المشاركة في أحد محاور الندوة أن يمدّوا مخبر البحث بمداخلاتهم طبقًا للبيانات التّالية:
- تقديم العنوان والتلخيص (نصف صفحة): 15 نوفمبر 2017.
- تقديم المداخلة في صيغتها النّهائيّة: 20 فبراير 2018.
يمكن التسجيل في الندوة عبر شبكة ضياء: http://diae.net/54885
ملاحظات:
1- تخضع جميع المقالات للتحكيم.
2- تحرّر المقالات وفق المعايير العلمية الجامعية لغة ومنهجا ومتنا وهامشا.
3- قبول المداخلة لا يعني بالضرورة نشرها.
4- يتكفّل المخبر بنشر المقالات التي تحظى بموافقة اللجنة على النشر.
5- يتكفّل مخبر البحث “تجديد مناهج البحث والبيداغوجيا في الإنسانيات” بتكاليف الإقامة (السّكن+الأكل) أيّام انعقاد النّدوة.
الجهة المنظمة: مخبر بحث “تجديد مناهج البحث والبيداغوجيا في الإنسانيات” بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقيروان
معلومات الاتصال:
العنوان البريدي: مخبر البحث: تجديد مناهج البحث والبيداغوجيا في الإنسانيات، كلّية الآداب والعلوم الإنسانيّة بالقيروان 3100 (ندوة الدّولة والدّين).
------------------
المصدر: شبكة ضياء: http://diae.net/54885